عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٤

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]

عمدة الحفّاظ في تفسير أشرف الألفاظ - ج ٤

المؤلف:

الشيخ أحمد بن يوسف [ السمين الحلبي ]


المحقق: الدكتور محمّد التونجي
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: عالم الكتب
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٠٩

وقوله تعالى : (وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ)(١) أي لم يظهروا تلهّفهم على ما فرّطوا ، خوفا من شماتة الأعداء ، نظرا إلى قوله : [من الكامل]

والموت دون شماتة الأعداء

ن د ي :

قوله تعالى : (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ)(٢) قيل : هو إسرافيل ينادي بصوت عظيم يسمعه كلّ أحد : أيتها الأجسام البالية ، والعظام الناخرة ، قوموا لحساب ربّ العالمين.

والنداء في الأصل : رفع الصوت بطلب من ينادى. وله حروف مخصوصة مذكورة في كتب العربية. وقد يقال : النداء ، للصوت المجرّد. ومنه قوله تعالى : (إِلَّا دُعاءً وَنِداءً)(٣) أي لا يعرف إلا الصوت المجرّد ، دون المعنى الذي يقتضيه تركيب الكلام.

قوله : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا)(٤) أي دعاه واستغاث به. وإنما أخفاه ، لأنّ إخفاء الدّعاء مطلوب لبعده عن الشوائب. وقيل : إنما أخبر عنه بالنداء منبهة على أنّ الدّاعي استقصر نفسه ، وهضمها تواضعا لربّه تعالى. والأنبياء ـ عليهم الصلاة والسّلام ـ أعرف بمقام الحقّ وأخوف الناس منه مع أنّهم أقربهم إليه. وعبّر الراغب هنا بعبارة سيئة ، لا يليق ذكرها على الأنبياء (٥).

قوله : (وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ)(٦) أي دعوتم إليها ، إشارة إلى الأذان والإقامة. قوله : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ)(٧) هو الرسول. وقيل : القرآن ، وقيل : كلّ رسول وكلّ كتاب منزل. وقال الراغب : أشار بالمنادي إلى العقل والكتاب المنزّل

__________________

(١) ٥٤ / يونس : ١٠.

(٢) ٤١ / ق : ٥٠.

(٣) ١٧١ / البقرة : ٢.

(٤) ٣ / مريم : ١٩.

(٥) المفردات : ٤٨٧ ، وليس فيه ما يشين ، ولكن المؤلف يأخذ من الراغب ويطعن عليه كعادته.

(٦) ٥٨ / المائدة : ٥.

(٧) ١٩٣ / آل عمران : ٣.

١٨١

والرسول المرسل وسائر الآيات الدالّة على وجوب الإيمان بالله. قال : وجعله مناديا للإيمان ، لظهوره ظهور النداء وحثّه على ذلك كحثّ المنادي.

قال : وأصل النداء ، من النّدى ، أي الرطوبة. يقال : ثوب ند ، أي رفيع. واستعارة النداء للصوت من حيث إنّ من تكثر رطوبة فمه حسن كلامه. ولهذا يوصف الفصيح بكثرة الريق. يقال : ندى وأندية وذلك كتسمية المسبّب باسم السّبب. وقول الشاعر (١) : [من الكامل]

كالكرم إذ نادى من الكافور

أي : ظهر ظهور صوت المنادي.

قال : وعبّر عن المجالسة بالنادي ، حتى قيل للمجلس : النادي والمنتدى والنّديّ. وقيل ذلك للجليس. قال تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ)(٢).

قلت : يجوز أن يكون قد عبّر عن أهل النادي بالنادي مجازا ، إطلاقا لاسم المحلّ على الحالّ ، كقول مهلهل في أخيه (٣) : [من الكامل]

نبّئت أنّ النار بعدك أوقدت

واستبّ بعدك ، يا كليب ، المجلس

وقيل : على حذف مضاف ، أي أهل ناديه ، وأهل المجلس ، وقوله : (أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ)(٤) قيل : استعمال النداء فيهم تنبيه على بعدهم عن الحق في قوله (يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ)(٥).

قوله تعالى : (يَوْمَ التَّنادِ)(٦) هو يوم القيامة. قيل له ذلك ، نظرا إلى قوله : (وَنادى

__________________

(١) قاله العجاج ـ اللسان مادة كفر. وكافور الكرم : الورق المغطّي لما في جوفه من العنقود.

(٢) ١٧ / العلق : ٩٦.

(٣) شرح ديوان الحماسة : ٩٢٨. وفيه همزة نبئت مخففة.

(٤) ٤٤ / فصلت : ٤١.

(٥) ٤١ / ق : ٥٠.

(٦) أضاف الناسخ كلمة «وأنذرهم» وهو وهم منه ، فأسقطناها. والآية : ٣٢ / غافر : ٤٠.

١٨٢

أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) (١) (وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ) (٢). وقيل : لأنّ كلّ واحد يدعى ليحاسب. ومنه قوله تعالى : (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ)(٣). وقرىء بتشديد الدال ، وقد تقدّم.

وفي الحديث : «إنه أندى صوتا منك» (٤) أي أرفع. وأنشد (٥) : [من الوافر]

فقلت : ادعي وأدع ، فإنّ أندى

لصوت أن ينادي داعيان

ويعبّر عن السخاء بالندى ، فيقال : فلان أندى كفا (٦). وأنشد : [من الطويل]

سريع إلى ابن العمّ ، يلطم وجهه

وليس إلى داعي النّدى بسريع

وفلان يتندّى على أصحابه (٧). وما نديت من فلان بشيء ، أي ما نلت منه ندى. ومنه الحديث : «من لقي الله ولم يتندّ من الدّم الحرام بشيء دخل الجنة» أي لم يصب شيئا من ذلك.

ويسمّى المكان المجتمع للمشاورة ندوة. ومنه دار النّدوة بمكة ، وهي مادة أخرى. وقد ذكرها الراغب (٨) والهرويّ في هذه المادة ، وكأنه على سبيل الاستطراد.

__________________

(١) ٤٤ / الأعراف : ٧.

(٢) ٤٨ / الأعراف : ٧.

(٣) ٧١ / الإسراء : ١٧.

(٤) النهاية : ٥ / ٣٧.

(٥) أنشده الأصمعي لمدثار بن شيبان النّمريّ (اللسان ـ مادة ندي).

(٦) يريد : أندى كفا من فلان. والحديث بعده من النهاية : ٥ / ٣٨.

(٧) يتندى : يتسخّى.

(٨) المفردات : ٤٨٧.

١٨٣

فصل النون والذال

ن ذ ر :

قوله تعالى : (أَأَنْذَرْتَهُمْ) أي أأعلمتهم (١) إعلاما بتخويف؟ فهو أخصّ من الإعلام ، إذ كلّ إنذار إعلام ، من غير عكس. وهو يتعدّى باثنين لنفسه فقال (إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) (٢) (فَقُلْ : أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً) (٣). فالمفعول الثاني يجوز أن يكون محذوفا ، أي أأنذرتهم (٤) العقاب أم لم تنذرهم إياه. والظاهر أنه غير مراد فحذفه إقتصادا لا اختصارا ، نحو : (كُلُوا وَاشْرَبُوا)(٥).

قال ابن عرفة : الإنذار الإعلام بالشيء الذي يحذر منه. وكلّ منذر معلم. وليس كلّ معلم منذرا. وهنا موافق لما قلناه ؛ يقال : أنذرته فنذر ينذر.

قوله (وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ) (٦) هو الرسول ؛ فعيل بمعنى مفعل. وقيل : هو الشّيب. وقيل : القرآن. ويكون النذير أيضا بمعنى الإنذار ، فيكون اسما ووصفا. ومنه قوله تعالى : (كَيْفَ نَذِيرِ) (٧) أي إنذاري.

قوله : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ) (٨) جمع نذير نحو رغيف ورغف. والمراد به المصدر. وجمع لاختلاف أنواعه. قال الراغب (٩) : والنذير : المنذر ؛ ويقع على كلّ شيء فيه إنذار ، إنسانا كان أو غيره. وجمعه النّذر. وقوله تعالى : (هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى) (١٠) أي من جنس ما أنذر به الذين تقدّموا.

__________________

(١) وفي الأصل بدون همزة الإستفهام. والآية : ٦ / البقرة : ٢.

(٢) ٤٠ / النبأ : ٧٨.

(٣) ١٣ / فصلت : ٤١.

(٤) وفي الأصل : أأنذرتكم.

(٥) ٦٠ / البقرة : ٢ ، وغيرها.

(٦) ٣٧ / فاطر : ٣٥.

(٧) ١٧ / الملك : ٦٧.

(٨) ١٠١ / يونس : ١٠.

(٩) المفردات : ٤٨٧.

(١٠) ٥٦ / النجم : ٥٣.

١٨٤

قوله تعالى : (عُذْراً أَوْ نُذْراً) (١) أي للإعذار أو للإنذار. فهو اسم مصدر ، ثم يجوز أن يكون أصلا بنفسه ، وأن يكون مخفّفا بضمتين.

قوله : (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ) (٢) يجوز في «ما» أن تكون نافية ، وهو الظاهر ؛ أي لم يشاهد آباؤهم نبيا. واستدلّ عليه بقوله : (وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ)(٣). قال الهرويّ : وفيه نظر ، ويجوز أن تكون مصدرية ، أي لتنذر قوما بمثل ما أنذر آباؤهم. فيكون آباؤهم منذرين أيضا. ويجوز أن تكون بمعنى الذي.

قوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) (٤) النّذر : ما يلتزمه الإنسان من صدقة أو فعل عبادة. ومنه قوله تعالى : (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً) (٥). وقال ابن عرفة : لو قال قائل : عليّ أن أتصدّق بدينار ، لم يكن ناذرا ، ولو قال : عليّ إن شفى الله مريضي ، أو ردّ غائبي صدقة دينار ، كان ناذرا. فالنّذر : ما كان وعدا على شرطه ، فكلّ ناذر واعد. وليس كلّ واعد ناذرا. وهذا إن كان من حيث اللغة فليس كذلك ، إذ النّذر التزام ، وإن كان شرعا فكذلك.

وإنّما هو قسمان : نذر لجاج ونذر تبرّر ، سواء وجدت فيه أداة شرط أم لا. قال الراغب : النّذر أن توجب على نفسك ما ليس بواجب لحدوث أمر. يقال : نذرت لله نذرا.

وفي الحديث : «أنّ عمر وعثمان قضيا في الملطاة بنصف نذر الموضحة» (٦). النّذر : أرش الجراحة بلغة الحجاز (٧). ويقال : نذر ينذر وينذر ، بكسر عين المضارع وضمّها. ولا منافاة بين قوله تعالى : (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ) وبين قوله عليه الصلاة والسّلام (٨) : «النّذر لا يأتي بخير»

__________________

(١) ٦ / المرسلات : ٧٧.

(٢) ٦ / يس : ٣٦.

(٣) ٤٤ / سبأ : ٣٤.

(٤) ٧ / الإنسان : ٧٦.

(٥) ٢٦ / مريم : ١٩.

(٦) النهاية : ٥ / ٣٩ ، والحديث لابن المسيّب. والمعنى : بنصف ما يجب فيها من الأرش والقيمة. وأهل الحجاز يسمون الأرش نذرا ، وأهل العراق يسمونه أرشا.

(٧) قال أبو نهشل : النذر لا يكون إلا في الجراح صغارها وكبارها. والشافعي سمّى في كتاب جراح العمد ما يجب في الجراحات من الديات نذرا ، قال : ولغة أهل الحجاز كذلك (اللسان ـ مادة نذر).

(٨) النهاية : ٥ / ٣٩.

١٨٥

وإنّما يستخرج به من مال البخيل» لأنّ الله تعالى أخبر عنهم أنّهم إذا التزموا شيئا وفوا به ، يعني إن صدر ذلك منهم لم يفرّطوا فيه ، وليس فيه مدحهم بفعلهم النذر بل بوفائه. والحديث النبويّ إنما هو في النّذر لا في وفائه. فاختلف الجهات. وقيل : النّذر الذي في الآية نذر التّبرّر والذي في الحديث نذر اللّجاج والغصب.

فصل النون والزاي

ن ز ع :

قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) (١) أي أزلنا وشفينا صدورهم من ذلك. وأصل النزع جذب الأشياء من مقارّها بقوة. وحقيقته في الأجرام ، هو نزع القوس عن كبده : (وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) (٢) ثم يستعمل في المعاني مجازا نحو (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ). وقوله تعالى : (وَالنَّازِعاتِ) (٣) أي الملائكة التي تنزع الأرواح عن الأشباح. قيل : تنزع أرواح الكفرة إغراقا ، «فغرقا» مصدر على حذف الزوائد ، كما يغرق النازع في القوس. وقيل : المراد بالنازعات غرقا القسيّ. (وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) (٤) الإرهاق.

قوله : (وَنَزَعَ يَدَهُ) (٥) أي أخرجها بسرعة. قوله : (فَلا يُنازِعُنَّكَ) (٦) المنازعة : المجادلة ، لأنّ كلا من المتجادلين ينزع صاحبه عن غرضه. وقيل : معناه : لا ينازعهم. قال أبو منصور : وكذا كلّ فعل يكون من اثنين ، بخلاف لا يضربنّك فلان.

__________________

(١) ٤٣ / الأعراف : ٧.

(٢) ٧٥ / القصص : ٢٨.

(٣) ١ / النازعات : ٧٩.

(٤) الآية بعدها.

(٥) ١٠٨ / الأعراف : ٧.

(٦) ٦٧ / الحج : ٢٢.

١٨٦

وقوله : (يَتَنازَعُونَ)(١) أي يتعاطون ، وتناقل بعضهم بعضا ، كأنّ كلا منهم ينزع الكأس من صاحبه.

ونزع فلان إلى كذا ، أي مال وذهب إليه معتقدا له. ونزع عن كذا : كفّ عنه. ونازعته نفسه : امرته وتردّدت في طلب شيء ، قال الشاعر (٢) : [من الوافر]

ولي نفس أقول لها إذا ما

تنازعني : لعلّي أو عساني

والنزوع : شدّة الاشتياق. والنّزعتان : بياض يكتنف الناصية ؛ يقال : رجل أنزع ، ولا يقال : امرأة نزعاء بل زعراء. وبئر نزوع : قريبة القعر يتناول منها باليد. وفي الحديث : «لقد رأيتني أنزع على قليب» (٣) أي أستقي. قال الشاعر (٤) : [من الرجز]

مالي إذا أنزعها صائت

أكبر قد غالني أم بيت؟

وشراب طيب المنزعة ، أي المقطع ، كقوله : (خِتامُهُ مِسْكٌ)(٥) وفي الحديث : «ما لي أنازع القرآن» (٦) أي أجاذبه ، وذلك لمّا جهروا خلفه (٧). ومنه : «إنّما هو عرق نزعه» (٨) أي نزع شبهه. ومنه أيضا : «طوبى للغرباء ، قيل : ومن هم؟ قال : النّزّاع» (٩) أي الذين نزعوا عن أهليهم ، جمع نزيع ونازع.

والنزائع : الغرائب من الإبل ، ومنه حديث ظبيان (أن قبائل من الأزد نتجوا فيها النزائع) (١٠) لأنها نزعت من أيدي الناس. وأنزع القوم : نزعت إبلهم إلى مواطنهم.

__________________

(١) ٢٣ / الطور : ٥٢.

(٢) البيت لعمران بن حطان ، وهو من شواهد اللغة : الكتاب : ٢ / ٣٧٥ ، الخصائص : ٣ / ٢٥ ، شرح المفصل : ٣ / ١٠ ...

(٣) النهاية : ٥ / ٤١.

(٤) البيت من شواهد جمهرة اللغة : ٣ / ٩١ ، وصوّبناه منه. يقول : مالي أصأى إذا نزعت الدلو فما أنا بكبير ولا لي امرأة. البيت هنا : المرأة. الصاءة : ما يقع مع الحوار نحو المشيمة.

(٥) ٢٦ / المطففين : ٨٣.

(٦) النهاية : ٥ / ٤١.

(٧) يريد : لما جهروا خلفه بالقراءة.

(٨) النهاية : ٥ / ٤١. يريد : نزع إليه في الشّبه ، إذا أشبهه. وهو من حديث القذف.

(٩) المصدر السابق ، أي طوبى للمهاجرين الذين هجروا أوطانهم في الله تعالى.

(١٠) المصدر السابق.

١٨٧

ن ز غ :

قوله تعالى : (وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ)(١) أي يوسوس. وقال الترمذيّ : يستخفنّك. يقال : نزغ به : استخفّ. وقيل : يفسد ، ومنه : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي)(٢) أي أفسد. وقيل : النزغ : الإغراء والتّسليط. وأصل النزغ الدخول في الأمر لإفساده.

ن ز ف :

قوله تعالى : (لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ)(٣) أي لا يسكرون. يقال : نزف الرجل ينزف نزفا ، مبنيا للمفعول : ذهب بعقله. ويقال للسكران : نزيف ومنزوف. قال امرؤ القيس (٤) : [من المتقارب]

وإذ هي تمشي كمشي النّزي

ف يصرعه بالكثيب البهر

هو مأخوذ من قولهم : نزف دمه ودمعه ، أي انتزح. ونزفت ماء البئر ، أي نزحته. فكأنّ السكران نزف فهمه بسكره.

وقرىء «ينزفون» (٥) ومعناه : لا يفنى شرابهم. يقال : أنزف القوم ، أي فني شرابهم ، ومنه الحديث في زمزم : «لا تنزف ولا تذمّ» (٦). وقد تكلّمنا على هذه الآية بأوسع من هذا في «الدر» و «العقد».

ن ز ل :

قوله تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)(٧) النزول : الهبوط من علوّ إلى سفل ، هذا

__________________

(١) ٢٠٠ / الأعراف : ٧ ، وغيرها.

(٢) ١٠٠ / يوسف : ١٢.

(٣) ١٩ / الواقعة : ٥٦.

(٤) الديوان : ١١٠. البهر : انقطاع النفس من الإعياء والتعب.

(٥) الفراء : «ولا ينزفون» : لا تذهب عقولهم. ومن قرأ : «ينزفون» : لا تفنى خمرهم (معاني القرآن : ٣ / ١٢٣).

(٦) النهاية : ٥ / ٤٢.

(٧) ١٩٣ / الشعراء : ٢٦.

١٨٨

أصله. وقد يراد به مجرّد الحلول كقوله تعالى : (فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ)(١) ، أي حلّ. ويقال : نزلت بالجبل ، وإن كان من سفل إلى علوّ لغلبة الاستعمال ، وهو عكس تعال ؛ فإنّ أصله أن تدعو من هو أسفل أن يرتفع إليك. ثم كثر حتى يقول المستفل للمرتفع : تعال.

وأنزلته مكان كذا : جعلته نازلا منه. قال تعالى : (وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً)(٢). قال بعضهم : إنزال الله تعالى نعمه على خلقه ؛ أعطاهم إياها ، وذلك إمّا بإنزال الشيء نفسه ، كإنزال القرآن. وإمّا بإنزال أسبابه والهداية إليه ، كإنزال الحديد واللباس ونحو ذلك. قال تعالى : (أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ)(٣)(وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ)(٤)(قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ)(٥). ومن إنزال العذاب قوله تعالى : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً)(٦).

قال الراغب (٧) : والفرق بين الإنزال والتّنزيل في وصف القرآن والملائكة أنّ التّنزيل يختصّ بالموضع الذي يشير إلى إنزاله متفرّقا ، ومرة بعد أخرى ، والإنزال عامّ. قلت : هذا الذي ذكره الراغب تبعه فيه أبو القاسم الزّمخشريّ ، وقد اعترضت عليهما بقوله تعالى : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً)(٨) فإنه أتى بصيغة «نزّل» مع «جملة» دفعة واحدة من غير تفريق ولا تنجيم (٩). وقد نقّحنا هذا في غير هذا.

قال : وقوله : (لَوْ لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ)(١٠) فإنّما ذكر في الأول «نزّل» وفي الثاني «أنزل» تنبيها أنّ المنافقين يقترحون أن ينزل شيء فشيء من الحثّ على القتال

__________________

(١) ١٧٧ / الصافات : ٣٧.

(٢) ٢٩ / المؤمنون : ٢٣.

(٣) ١ / الكهف : ١٨.

(٤) ٢٥ / الحديد : ٥٧.

(٥) ٢٦ / الأعراف : ٧.

(٦) ٣٤ / العنكبوت : ٢٩. رجزا : عذابا شديدا.

(٧) المفردات : ٤٨٩.

(٨) ٣٢ / الفرقان : ٢٥.

(٩) جاء في التفسير أن النجم نزول القرآن نجما بعد نجم ، وكان تنزل منه الآية بعد الآية.

(١٠) ٢٠ / محمد : ٤٧.

١٨٩

ليتولّوه. وإذا أمروا بذلك دفعة واحدة تحاشوا عنه فلم يفعلوه ، فهم يقترحون الكثير ولا يفون منه بالقليل. قوله : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)(١) إنّما خصّ لفظ الإنزال دون التّنزيل لما روي أنّ القرآن نزل دفعة واحدة إلى سماء الدنيا ، ثم نزل نجما نجما.

قوله : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ)(٢) ولم يقل : نزّلنا ، منبّها أنّا لو خوّلناه مرّة واحدة ما خوّلناك مرارا لرأيته خاشعا متصدّعا. قوله : (قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً* رَسُولاً)(٣) قيل ؛ أراد بإنزال الذكر هنا بعثة النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كما سمّي عيسى عليه‌السلام «كلمة» (٤). فعلى هذا يكون قوله : (رَسُولاً) بدلا من قوله : (ذِكْراً). وقيل : أراد إنزال ذكره ، فيكون رسولا مفعولا لقوله : (ذِكْراً) أي ذكرا رسولا. قلت : ويجوز أن يكون «ذكرا» مفعولا له (٥) ، ورسولا مفعول الإنزال. فإن قيل : قد اختلف الفاعل ؛ فإنّ فاعل الإنزال غير فاعل الذّكر ، فالجواب : إنا وإن سلّمنا اشتراط ذلك فالفاعل متّحد ، لأنّ الذّكر بمعنى التذكّر ، أي أنزل الرسول ليذكّركم به. وهو معنى حسن طائل. قال (٦) : وأمّا التنزّل فكالنّزول به ؛ يقال : نزل الملك بكذا ، وتنزّل. ولا يقال : نزل الله بكذا ، ولا تنزّل ؛ قال تعالى : (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ)(٧) وقال تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها)(٨) ولا يقال في المفترى والكذب ، وما كان من الشياطين إلا التنزّل ؛ قال تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ)(٩) قوله : وما كان من الشّياطين ثم تلا قوله تعالى : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ) ليس مطابقا لذلك ، لأنّ «ما» نافية ، أي أنّ الشياطين لم تنزّل به ، أي بالقرآن.

قوله تعالى : (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ)(١٠) النّزل : ما يعدّ للنازل من الضّيافة ؛ أنزلته :

__________________

(١) ١ / القدر : ٩٧.

(٢) ٢١ و ٢٢ / الحشر : ٥٩.

(٣) راجع الآية : ٤٥ / آل عمران ٣١.

(٤) راجع الآية : ٤٥ / آل عمران ٣١.

(٥) ساقطة من س.

(٦) يعني الراغب.

(٧) ١٩٣ / الشعراء : ٢٦.

(٨) ٤ / القدر : ٩٧.

(٩) ٢١٠ / الشعراء : ٢٦.

(١٠) ٥٦ / الواقعة : ٥٦.

١٩٠

أضفته. فمن ثمّ قيل : إنّ هذا على سبيل التهكّم نحو : (فَبَشِّرْهُمْ)(١). وإنّه لم يكن لهم نزل إلا هذا كقوله : [من الوافر]

تحيّة بينهم ضرب وجيع

قوله : (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ)(٢) هذا على بابه ، وقيل : ثوابا ورزقا. وهو بمعنى الأول. قوله : (وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ)(٣) هو من : أنزلته ، أي أضفته. والمعنى : خير من يضيف ببلاد مصر. قوله : (فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ)(٤) كقوله : (هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ) في احتمال الوجهين. قوله : (أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً)(٥) يجوز فيه ما جاز في (هذا نُزُلُهُمْ). ووجه آخر ، وهو أن يراد : أذلك خير فضلا وريعا؟ يقال : له طعام : له نزل.

والنّوازل : الشدائد ، واحدها نازلة ، ومنه قيل : النّزال ، للحرب لقولهم فيها : نزال. قال الشاعر (٦) : [من الكامل]

فدعوا نزال ، فكنت أوّل نازل

وعلام أركبه إذا لم أنزل؟

ونازله منازلة : قاتله مقاتلة. ونزل فلان : أتى منزله. قال الشاعر (٧) : [من الطويل]

أنازلة أسماء أم غير نازله؟

والنّزالة : السّقاطة. نحو : النّخالة والذّبالة. ويكنى بالنّزالة أيضا وبالنّزل عن ماء الرجل.

__________________

(١) ٢١ / آل عمران : ٣ ، وغيرها.

(٢) ١٩٨ / آل عمران : ٣. والكلام للراغب.

(٣) ٥٩ / يوسف : ١٢.

(٤) ٩٣ / الواقعة : ٥٦. نزل : قرى وضيافة. حميم : ماء تناهت حرارته.

(٥) ٦٢ / الصافات : ٣٧.

(٦) البيت للشاعر المخضرم ربيعة بن مقروم الضبي. والبيت من شواهد النحو ، شاهده مجيء «نزال» مفعولا لدعوا ، لأن المفعول لا يأتي جملة إلا بعد القول وتكون مؤولة بالمفرد أيضا (شرح المفصل : ٤ / ٢٧).

(٧) صدر لعامر بن الطفيل ، وعجزه كما في الديوان : ١٠٤ :

أبيني لنا يا أسم ما أنت فاعله

١٩١

فصل النون والسين

ن سء :

قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها)(١) أي نؤخّرها أو نؤخّر نسخها. والنّسء : التأخّر. يقال : نسأ الله في أجلك ، وأنسأ إنساء. ومنه النّسيئة : وهو البيع إلى أجل. نسئت المرأة ، أي أخّر وقت حيضها فرجي حملها. وقيل : هي أول ما يظنّ بها الحمل. ومنه الحديث : «دخلت عليها وهي نسء» (٢) أي مظنون حملها. والجمع نساء ؛ يقال : امرأة نسء ونسوة نساء. قلت : وعلى هذا يقال : نساء نساء ؛ فالأول جمع امرأة في المعنى ، والثّاني جمع نسء ، وهو جمع تكسير حقيقة. فالأول اسم جمع. وفي الحديث : «من أحبّ أن ينسأ في أجله فليصل رحمه» (٣). وانتسأت ، أي تأخّرت. وأنشد لابن زغبة (٤) : [من الطويل]

إذا انتسؤوا فوت الرمّاح أتتهم

عوائر نبل ، كالجراد تطيرها

ومنه أيضا النّسيء في قوله : (إِنَّمَا النَّسِيءُ)(٥) لأنه تأخير شهر إلى شهر ، وذلك أنّهم كانوا في الجاهلية يجعلون المحرّم مكان صفر ، فيؤخّرونه إليه. وإنّما كان يفعل ذلك المحاويج من كنانة ليغيروا على بعضهم فيستاقون إبلهم وغنمهم (٦) ، والفاعل لذلك هو جنازة بن عون. قال الشاعر مفتخرا بذلك (٧) : [من الوافر]

ألسنا الناسئين على معدّ

شهور الحلّ نجعلها حراما؟

قوله : (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ)(٨) أي عصاه ؛ سميت بذلك لأنها ينسأ بها أي يؤخّر ، فهي اسم

__________________

(١) ١٠٦ / البقرة : ٢.

(٢) النهاية : ٥ / ٤٥ ، وفي رواية «نسوء» ، وضمير المؤنث يعود على أم عامر بن ربيعة. كما تدعى «النسء» نسيئا كما في اللسان.

(٣) النهاية : ٥ / ٤٤.

(٤) اللسان ـ مادة نسأ ، وله رواية : إذا أنسؤوا. وهو مالك بن زغبة الباهلي.

(٥) ٣٧ / التوبة : ٩.

(٦) لأنهم كانوا يكرهون أن يتوالى عليهم ثلاثة أشهر حرم. فيحلّ لهم رجل من كنانة المحرّم ، فذلك الإنساء.

(٧) الشاعر هو عمير بن قيس بن جذل الطعان ـ اللسان مادة نسأ.

(٨) ١٤ / سبأ : ٣٤.

١٩٢

آلة كالمكتب. وقد قرىء بسكون الهمزة وإبدالها ألفا (١) ؛ قال الشاعر (٢) : [من البسيط]

إذا دببت على المنساة من هرم

فقد تباعد عنك اللهو والغزل

وقد حقّقنا القول فيها في غير هذا. يقال : نسأت الإبل ، أي أخّرتها بالمنسأة. ونسأت الإبل في ظمئها يوما أو يومين ، أي أخّرت. وأنشد لطرفة بن العبد (٣) : [من الطويل]

أمون كألواح الأران نسأتها

على لاحب كأنّه ظهر برجد

والنّسيء (٤) : الحليب أخّر تناوله فحمض (٥) فمدّ بماء ، فهو فعيل بمعنى مفعول ، نحو : النّقيص والنكيث بمعنى منكوث ومنقوص.

ن س ب :

قوله تعالى : (فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ)(٦) أي ثم ينقطع التّفاخر بينهم بالأنساب التي كانوا يعتدّون بها مفاخرة في الدنيا على غيرهم ، من قولهم : أنا فلان بن فلان ، لا على قصد التعريف ، بل على قصد التّعريض بدناءة آباء غيره ، كقول الشاعر (٧) :

إنّا بني نهشل لا ندّعي لأب

عنه ولا هو بالأبناء يشرينا

آخر (٨) : [من الرجز]

نحن بنو ضبّة أصحاب الجمل

الموت عندنا أحلى من العسل

__________________

(١) يريد الآية السابقة.

(٢) وهو شاهد في ترك الهمز ، والبيت ناقص «من هرم» في الأصل ، أتممناه من اللسان.

(٣) الديوان : ٢٧. وروايته : نصأتها ـ بالصاد ـ. الأمون : التي يؤمن عثارها. الأران : التابوت العظيم. نسأتها : أبعدتها (نصأتها : زجرتها). اللاحب : الطريق الواضح. البرجد : كساء مخطط.

(٤) وفي المفردات : النسوء. وفي اللسان : النّسء.

(٥) في الأصل : حمض ، أضفنا الفاء العاطفة للسياق.

(٦) ١٠١ / المؤمنون : ٢٣.

(٧) المشهور أن البيت ـ من قصيدة ـ لبشامة بن حزن النهشلي ، كما في الحماسة شرح التبريزي وذكر ابن قتيبة لنهشل بن حري النهشلي (الشعر والشعراء : ٥٣٣).

(٨) من شواهد اللسان ـ مادة جمل.

١٩٣

وقال الشاعر في معنى الآية الكريمة (١) : [من السريع]

لا نسب اليوم ولا خلّة

اتّسع الخرق على الراقع

والأصل في النّسب الاشتراك في أب أو دين أو صناعة أو حيّ أو قبيلة. والنسبة والنسب أن تزيد في آخر الاسم الذي تريد أن تنسب إليه ياء مشدّدة تعتورها ألقاب الإعراب نحو : تميميّ ، وداريّ. وقد تقوم مقامها صيغ نحو : لبّان ولابن ونهر (٢) ، وله باب واسع أتقنّاه في كتب العربية والحمد لله.

قوله تعالى : (فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً)(٣) أي قرابة ، وذلك أنّ النّسب ، كما قال الراغب (٤) ، ضربان : نسب بالطول كالاشتراك بين الآباء والأبناء ، ونسب بالعرض كالنسبة بين الإخوة وبني الأعمام. والنسب يقال في مقدارين متجانسين بعض التجانس ، يختصّ كلّ واحد منهما بالآخر. قيل : ومنه النسيب ؛ نوع من أنواع الشعر ، وهو ذكر العشق في النساء ، وذلك أنه انتساب في الشعر إلى المرأة بذكر العشق ؛ يقال : نسب الشاعر بالمرأة نسبا.

ن س خ :

قوله تعالى : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ)(٥). النّسخ : الإزالة. نسخت الريح أثر القوم : أزالته (٦). وقيل : هو إزالة شيء بشيء ؛ يقال : نسخت الشمس الظلّ ، والظلّ الشمس ، والشيب الشباب. وقال الراغب (٧) : فتارة يفهم منه الإزالة ، وتارة يفهم منه الإثبات ، وتارة يفهم منه الأمران.

ونسخ الكتاب : إزالة بحكم يتعقّبه. وقال غيره : النسخ يكون بمعنى الإزالة ، وبمعنى

__________________

(١) البيت من الأمثال ، يضرب عجزه في الأمر الذي لا يستطاع تداركه لتفاقمه (المستقصى : ١ / ٣٥).

(٢) قد يستغنى عن ياءي النسب بصوغ المنسوب على : فعّال ، أو فاعل ، أو فعل.

(٣) ٥٤ / الفرقان : ٢٥.

(٤) المفردات : ٤٩٠.

(٥) ١٠٦ البقرة : ٢.

(٦) وفي الأصل : أزلته.

(٧) المفردات : ٤٩٠.

١٩٤

النّقل. ومنه : نسخت (١) النخل : نقلتها. وتارة يكون النقل لنفس الذّات كنسخ النقل. وتارة يكون نقل مثل الشيء المنقول مع بقائه مكانه نحو : نسخت الكتاب ، أي نقلت مثل ما فيه. وهل هذا من باب الاشتراك أو الحقيقة أو المجاز؟ وأما النسخ شرعا فرفع حكم شرعيّ بدليل شرعيّ متأخّر عنه لا إلى غاية. ثم النسخ يكون على ثلاثة أوجه : أحدها أن ينسخ اللفظ والحكم معا. كما يروى أنه كان ممّا يتلى : «عشر رضعات محرمات» ثانيها أن ينسخ اللفظ ويبقى الحكم ، كما يروى أنه كان مما يتلى : «الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتّة نكالا من الله والله عزيز حكيم». وثالثها عكس هذا كآيتي العدّة (٢) ؛ فإنّ الثانية منسوخة بالأولى. ثم إنّه هل يجوز النسخ إلى غير بدل أو بأثقل؟ خلاف كبير أتقنّاه في «القول الوجيز في أحكام الكتاب العزيز» ، وذكرنا أقسامه واختلاف الناس فيه ، فعليك بالالتفات إليه. وقرىء : «ما ننسخ» و «ما ننسخ» (٣) ، وقد حقّقنا هذا في الكتاب المشار إليه وفي «الدّرّ» و «العقد».

قوله : (إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)(٤) أي نأمر الحفظة باستنساخه وكتبه ، وذلك لإقامة الحجّة عليهم ، وإلا فالباري تعالى علم أفعالهم قبل أن يخلقهم ، وقبل أن تصدر منهم. والمناسخة : أن يموت مورّث ، ثم يموت بعض ورثته قبل أن تقسم تركة الأوّل. والتّناسخيّة : قوم يزعمون أن لا بعث ولا نشور ، بناء على مذهبهم الفاسد ، وأنّ هذه الأرواح إذا خرجت من جسد حلّت في جسد آخر ، بحسب خيريّته وشرّيته ؛ فإن كان خيّرا حلّت في جسد صالح وصورة حسنة ، وإلّا ففي أقبح صورة. فروح زيد أن تحلّ في مثله ، أو كلب ، أو ذبابة ، أو زنبور. وكذا روح الزنبور. ويذكرون على ذلك أدلّة باطلة ، وحججا داحضة ، يموّهون بها على ضعفهم ، نعوذ بالله مما خالف ما جاءت به أصحاب الشرائع صلوات الله وسلامه عليهم.

__________________

(١) وفي س : نسخ.

(٢) انظرهما في : ١ / الطلاق : ٦٥ و ٤ / الطلاق.

(٣) قراءة ضم النون لعبد الله بن عامر.

(٤) ٢٩ / الجاثية : ٤٥.

١٩٥

ن س ر :

قوله تعالى : (وَنَسْراً)(١) قيل : هو اسم / صنم ، وكان ودّ وسواع ويغوث ويعوق ونسر أصناما (٢) تعبد من دون الله. قيل : كان ودّ على صورة صنم لكلب (٣) ، وسواع لهمدان (٤) ، ويغوث لمذحج ، ويعقوق لمراد (٥) ، ونسر لحمير. وكان ودّ على صورة رجل ، وسواع امرأة ، ويغوث أسدا ، ويعوق فرسا ، ونسر نسرا. وقيل : كانوا قوما صالحين في قوم نوح ، فلما ماتوا اتّخذوا صورهم ليتذكّروا أعمالهم ، فطال الزمان وجاءت الأبناء ، فجاءهم إبليس وقال : أما ترون هذه التماثيل؟ فقالوا : نعم. فقال : كان آباؤكم يعبدونها. فعبدوها ، ثم جاءت عبادة الأصنام.

والنّسر في الأصل اسم الطائر ، قيل : كان الصنم على صورته. والنسر أيضا نجم في السماء معروف. قال : [من الطويل]

تنظّرت نسرا والسّماكين أيّها

عليّ من الغيث استهلّت مواطره

وكان من حقّه أن يلزمه الألف واللام لأنه علم بالغلبة ، وإنّما شذّ حذفها منه كقولهم : هذا عيوق طالعا ، وهما نسران (٦) : نسر طائر ونسر واقع ، تشبيها في الصورة.

والنّسر أيضا مصدر نسر الطائر الشيء بمنسره ، أي نقره بمنقاره. والنّسر لحمة ناتئة تشبيها به. ونسرت كذا : تناولته تناول الطائر الشيء بمنسره.

ن س ف :

قوله تعالى : (فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً)(٧). النّسف : القلع ، يقال : نسفت الريح

__________________

(١) ٢٣ / نوح : ٧١.

(٢) في الأصل : أصنام.

(٣) أي لقبيلة كلب في دومة الجندل.

(٤) ويذكر الكلبي (الأصنام : ٩) أنه كان في ينبع وكان سدنته بنو لحيان.

(٥) وذكر الكلبي أنه لخيوان قرب صنعاء.

(٦) هما كوكبان معروفان ، شبيهان بالنسر.

(٧) ١٠٥ / طه : ٢٠.

١٩٦

[الشيء](١) : قلعته وأزالته عن مقرّه ، وقيل : نسفها : دكّها وتذريتها وهو قريب. قوله : (ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً)(٢) أي لنذرينّه تذرية كما تذرو الرياح الغبار.

ويقال : نسف البعير الأرض بمقدّم رجله. ويقال لذلك الغبار النّسافة. ومنه : انتسف لونه ، أي تغيّر تغيّر النّسافة ، نحو : اغبّر وجهه ، وأريد : كأنّ عليه نسافة. ومنه قيل لراعوفة البئر (٣) نسافة. وكلامهم نسيف ، أي متغيّر ضئيل. والنّسفة : حجارة يزال بها وسخ القدم. وقيل : (لَنَنْسِفَنَّهُ) أي لنطرحنّه فيه طرح النّسافة : وهو ما يثور من الغبار. وقيل : نسفها : قلعها من أصلها ، من قولهم : نسف البعير النبات ، أي قلعه بفيه من الأرض بأصله ، وكلّها معان متقاربة.

ن س ك :

قوله تعالى : (وَأَرِنا مَناسِكَنا)(٤) المناسك جمع منسك ـ بفتح السين وكسرها. وقد قرىء بهما. قوله تعالى في المتواتر : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً)(٥). والمناسك : عبادات الحجّ وأماكنها. وأصل النّسك العبادة مطلقا من حجّ وغيره. ومنه : تنسّك فلان ونسك فهو نسيك وناسك ، ثم غلب على الحجّ. وقال الأزهريّ في قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ)(٦) النّسك : ما يتقرّب به إلى الله تعالى.

وقول الناس : فلان ناسك من النّسّاك ، أي عابد من العبّاد يؤدّي المناسك وما فرض عليه ، وما يتقرب به إليه. قال : والمنسك في قوله تعالى : (لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً)(٧) يدلّ على موضع النّحر ؛ أراد مكان نسك. قال (٨) والنّسيكة : مختصّة بالذّبيحة. وقال مجاهد في قوله : (جَعَلْنا مَنْسَكاً ؛) مذبحا. قال : نسك : إذا ذبح ـ ينسك نسكا. والنّسيكة : الذّبيحة ،

__________________

(١) إضافة يقتضيها السياق.

(٢) ٩٧ / طه : ٢٠.

(٣) الراعوفة والراعوف : صخرة تترك عند رأس البئر ليقوم عليها المستقي.

(٤) ١٢٨ / البقرة : ٢.

(٥) ٣٤ / الحج : ٢٢.

(٦) ١٦٢ / الأنعام : ٦.

(٧) ٦٧ / الحج : ٢٢.

(٨) لعله أراد الراغب ، فهي مذكورة في المفردات : ٤٩١.

١٩٧

وجمعها نسك. قال تعالى : (أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ)(١). وقال غيره : النّسك : الطاعة. وقال آخرون : النسك : ما أمرت الشريعة به ، والورع : ما نهي عنه.

وقال الهرويّ : وأخبرنا ابن عمار عن أبي عمر قال : سئل ثعلب عن معنى الناسك ما هو؟ فقال : هو مأخوذ من النّسيكة ، وهي السّبيكة من الفضة المصفّاة ، وكأنه صفّى الله نفسه. وقال ابن عرفة : «جعلنا منسكا» أي مذهبا من طاعة لله تعالى : نسك الرجل بنسك قومه ، أي سلك مذهبهم. فقوله : (وَأَرِنا مَناسِكَنا) ، يجوز أن يكون التقدير : أرنا متعبّداتنا من حجّ أو غيره ، أو مواقف حجّنا ، أو عبادة حجّنا ، أو مواضع ذبحنا ، أو مواقف عباداتنا.

ن س ل :

قوله تعالى : (إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ)(٢) أي يسرعون في عدوهم من قولهم : نسل الثعلب ، أي أسرع في ذهابه ، ينسل نسلا. ومنه قوله تعالى : (وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ)(٣). وقيل : النّسلان دون السّعي. وفي حديث لقمان بن عاد : «وإذا سعى القوم نسل» (٤) أي إذا سعوا لغارة أو مخافة ، قارب الخطو في إسراع. وفي الحديث : «شكوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الضعف. فقال : عليكم بالنّسل» (٥) قال ابن الأعرابي : النسل ينشط ، وهو الإسراع في المشي. وفي حديث آخر : «أن قوما شكوا إليه الإعياء فأمرهم أن ينسلوا» (٦). وقال بعضهم : النّسل : الذريّة ، وكأنّه أمرهم ـ لما شكوا ضعفهم ـ بالتوالد. وأصل النسل الانفصال عن الشيء. وهذا المعنى يخدمك في جميع ما قدّمته. ومنه نسل الوبر عن البعير ، والقميص عن الإنسان ، والريش عن الطائر. ويعبّر به عن الهجر والإبعاد. وأنشد لامرىء القيس (٧) : [من الطويل]

__________________

(١) ١٩٦ / البقرة : ٢.

(٢) ٥١ / يس : ٣٦.

(٣) ٩٦ / الأنبياء : ٢١.

(٤) النهاية : ٥ / ٤٩.

(٥) المصدر السابق.

(٦) يذكر ابن الأثير أنه رواية أخرى للحديث السابق.

(٧) من معلقته ، كما في الديوان : ٣٢. أراد بالثياب القلب.

١٩٨

وإن تك قد ساءتك مني خليقة

فسلّي ثيابي من ثيابك تنسل

كنّى بذلك عن الإبعاد. وأنسلت الإبل : حان أن تنسل وبرها. والنّسل : الذرية لأنّها نسلت عن الوالدين. وقيل : لكونها ناسلة عن الله بخلقه وإيجاده. قال تعالى : (وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ)(١) ، قيل : نزلت في الأخنس بن شريق (٢) وقد مرّ بزرع فحرقه ، وبنعم فحرقها.

وتناسلوا : توالدوا. وفي الحديث : «تناكحوا تناسلوا فإنّي مكاثر بكم يوم القيامة» (٣). وكان يقال : إذا طلبت فضل إنسان فخذ ما نسل لك منه عفوا.

ن س ي :

قوله تعالى : (نَسُوا اللهَ فَنَسِيَهُمْ)(٤) أي تركوا أوامره ونواهيه فتركهم مخلدين في النار. والنسيان يعبّر به عن التّرك. وقال بعضهم : النسيان : ترك الإنسان ضبط ما استودع ، إمّا لضعف قلبه ، وإمّا عن غفلة ، وإمّا عن قصد حتى ينحذف عن القلب ذكره.

قوله : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى)(٥) لا نافية ، وهي ضمان من الله تعالى لنبيّه ، أنه إذا سمع شيئا من القرآن لم ينسه ، وقول من قال : إنه نهي ضعيف من حيث المعنى ، ومن حيث اللغة لما بينّا في غير هذا. قال الراغب (٦) : وكلّ نسيان من الإنسان ذمّه الله تعالى به ، فهو ما كان أصله عن تعمّد. وما عذر فيه نحو ما روي عنه عليه الصلاة والسّلام : «رفع عن أمّتي الخطأ والنّسيان» (٧) ، فهو ما لم يكن سببه منه.

__________________

(١) ٢٠٥ / البقرة : ٢.

(٢) ويعرف بأبي بن شريق ـ وهو اسمه ـ الثقفي. كان حليفا لبني زهرة ، أعطاه رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وسلم) مع المؤلفة قلوبهم ، وتوفي في أول خلافة عمر. أشار على بني زهرة بالرجوع إلى مكة وعدم الإشتراك ببدر.

(٣) رواه عبد الرزاق في المصنف موقوفا ، ورواه أحمد وأبو داود عن معقل بن يسار بلفظ آخر هو : «تزوجوا الودود الولود إني مكاثر للأنبياء يوم القيامة».

(٤) ٦٧ / التوبة : ٩.

(٥) ٦ / الأعلى : ٨٧.

(٦) المفردات : ٤٩١.

(٧) المصدر السابق. وأخرجه ابن ماجة عن ابن عباس بلفظ قريب ، وروي روايات أخر.

١٩٩

قوله : (فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا)(١) هو ما كان سببه عن تعمّد منهم. قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ)(٢) قال ابن عباس : أي لم يقل : إن شاء الله تعالى أفعله إذا ذكرته. ونقل عن عكرمة عبارة الله أعلم بصحّتها. ولا ينبغي أن تصحّ. وأجاز ابن عباس الاستثناء بعد ذكره لظاهر هذه الآية على ما تأوّلها. وقد حقّقنا هذا في «الأحكام».

قوله : (وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا)(٣) أي شيئا تافها لا يؤبه له ، ممّا حقّه أن ينسى ويترك قلة مبالاة به. والنّسي فعيل بمعنى مفعول كالنّقض والنكث. وقوله : (مَنْسِيًّا) مبالغة فيه ؛ لم يكفها أن تتمنّى أن تكون شيئا تافها حتى بالغت فيه. يوصف بذلك لأنّ النسي يقال لما يقلّ الإعتداد به وإن لم ينس. وقرىء «نسيا» بالفتح وهو مصدر موضوع موضع المفعول (٤). وكانت العرب إذا ترحّلت عن منزل تقول : احفظوا أنساءكم ، أي ما حقّه أن ينسى لقلّة الاعتداد به كالوتد والشّظاظ (٥) ونحوهما.

قوله : (ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها)(٦) قرىء بضمّ النون الأولى وسكون الثانية من غير همز ، والمراد : نأمر بنسيانها أو ننسها للناس. وقد جرى هذا [حين](٧) أصبح القوم ، وقد أذهب الله من قلوبهم حفظ بعض القرآن ، الذي أراد نسخه لفظا ، كما هو مشهور في التفسير والأخبار.

قال الراغب (٨) : فإنساؤها حذف ذكرها من القلوب بقوة إلهية. قال غيره : أي نأمركم بتركها. يقال : أنسيته الشيء : أمرته بتركه. قوله : (وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا)(٩) أي ناسيا ؛

__________________

(١) ١٤ / السجدة : ٣٢.

(٢) ٢٤ / الكهف : ١٨.

(٣) ٢٣ / مريم : ١٩.

(٤) ذكر الفراء أن أصحاب عبد الله قرؤوا «نسيا» بفتح النون ـ وكذلك قرأها حفص وحمزة ـ وسائر العرب تكسر النون. وهما لغتان (معاني القرآن : ٢ / ١٦٤).

(٥) الشظاظ : خشبة عقفاء تدخل في عروتي الجوالق.

(٦) ١٠٦ / البقرة : ٢.

(٧) إضافة مناسبة للسياق.

(٨) المفردات : ٤٩١.

(٩) ٦٤ / مريم : ١٩.

٢٠٠